لمهجتي ذمة في طيبةٍ شغفت ** فهل تطيب بأوفی الخلق للذمم
إمام كل رسول عند بارئه ** مبرّأ لا تباريه ذوو العصم
سر الحدوث ومولی من له قدم ** صدقٌ ومادحه الموصوف بالقدم
فترك مدحي له مدح وهل قلمي ** ونوني في الوصف تحكي نون والقلم
فلم يبالغ بما أثنی الإله به ** عليه كيف نوفيه بمنتظم
وإن لولاه لم تخلق ملائكة ** ولا الحجاب الذي عند العروج رمي
يكفي السموات شريفاً بوطئته ** والأرض جبريل فيها جملة الخدم
تكوّن الكون نوراً عند مولده ** كأنه الآن موجود من العدم
وكان يوم استضاء الكون وهو دجی ** بدراً بدأ ونسيماً دبّ في النسم
كيف استنارت قصور الشام إذ خمدت ** نار المجوس وبالنار الفرات ظمي
فلينفخ النار ذو الإيوان إذ طفئت ** بماء ساوة إن ينفخ علی ضرم
فكسر ايوان كسری مقصرٌ أملاً ** من قيصر في بني التثليث والصنم
فلا سرير وما اهتزت قوائمه ** ولا أمير وما تلقاه ذا وجم
والكفر بات علی حال يساء به ** والعلم بالحق بشراه علی العلم
محمد روح عيسی وهو جثته ** تكلمت عن كليم فيه بالعظم
أحيا النفوس ومحيي الجسم بشرنا ** بأن ذا رؤية خير من الكلم
إن ينكروا وصفه شالت نعامتهم ** فإنها نعمٌ تخفی علی النعم
أنار ظلمة دنيانا بضرّتها ** وجاز فيها جواز البرء في السقم
وأهل بيت عن الدنيا قد ارتفعوا ** تحت العباءة فوق الناس كلّهم
باب المدينة حامي البيت صاحبه ** ليث الإله علي الجاه والشيم
والبضعة الدرة الزهراء فاطمة ** وصفوة الصفوة الغراء في العصم
والنّيرين الشهيدين ابنها حسن ** إذ قال للملك إن السم في الدسم
ريحانة ظمئت في كربلا فجرت ** علی الحسين عيون العين بالديم
يزيد نار الأسی دمعٌ عليه جری ** في يوم أن خضّب الريحان بالدم
يا سيد الرسل لي فكرٌ يضيء به ** لفظ المحب ضياء البدر في الظلم
يا أكرم الخلق لا مستثنياً ملكاً ** ومفرق الفرقتين العرب والعجم
هذي قصيدي فإن أقبل فمن كرم ** قد عم غيري وإن أردد فوا ندمي
يكفي الأباصيري ما نالت قصيدته ** من المقاصد في حكم وفي حكم
ببرأةٍ أبرأته ثم تسقمني ** برئت من ألمي إن قلت وا ألمي
يا عالم السر من مكنون مبسمها ** ومسبل السر من شعر علی القدم
جرّت فؤادي بألحاظ لها قسمٌ ** علی الحشی هدبها من أحرق القسم
يزينها بالبها الإخلاص عاشقها ** قد حاز معرفة من صاحب العلم
ليست مثال قصيد من أسير هویً ** إلی فضول بدعوی الفضل متهم
لكن عسی المذنب الدرويش يلحظ من ** أمن تذكر جيران بذي سلم
فالّببغا نائل من فضل سيده ** محاكياً وأنا حاكيتهم بفمي
فؤادي جَوى بالنّعلِ واللُّبُّ ذاهبُ ** وللنّاسِ فيما يَعشقونَ مَذاهبُ
أتاني هواها قبلَ أنْ أعرِفَ الهوى ** فأعطيتُهُ قلبي بكلّهِ فاستوى
إذا لاحَ سرٌّ أو تَهلّلَ مَنْظرُ ** تَذكّرتُها والـشّيءُ بالـشّيءِ يُذكَرُ
فما لي بها وَصلٌ ولا أنا شاهِدُ ** ولكنّ طَبْعَ النّفسِ للنّفسِ قائِدُ
وَقَفتُ لها عِرضي وأهلي ومالِيا ** فهذا لها عندي فما عندَها لِيا
لقد ثبتت في القلب منها لوائع ** كما ثبتت في الراحتين الاصابع
مَكثتُ زمانًا في التّستُّرِ والصّبرِ ***وقد ضاقَ بالكِتمانِمِنحبِّها صَدري
فكم مَسّني ضرٌّ وما نفذَ الصّبرُ **ومَن خطبَ الحسناءَ لم يَغْلُهُ المهرُ
كأيِّن أتتني مِن عَذُولي محامِدُ ** مَصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائِدُ
فكلُّ امرئٍ مِنّا له ما يُناسِبُهْ ** وما ناصحاتُ المرءِ إلّا تجاربُهْ
يقولون لي قد عذّبتكَ يامُذنبُ ** ألا حبَذا ذاكَ الحبيبُ المعذِّبُ
إليكم عنّي لاتماروا فإنّني ** أقولُ على علمٍ وأعلمُ ما أعني
فما نحنُ في التّحقيقِ إلّا بضائِعُ ** ولا بُدّ يومٌ أن تُردَّ الودائِعُ
أأركنُ للأغيارِ والنُّورُ في القلبِ ** فمنشامَشرقَالشّمسِلايرضىبالغربِ
تمنّيتُ لو أني بِطيبةَ كالفرشِ ** وإنّي لأَرجوها ولو كنتُ بالنّعشِ
فلا غَرو حيثُ النّعلُ يَأرُجُ طِيبُها ** هوى كلُّ نفْسٍ أينَ حلَّ حبيبُها
رَواحٌ وأُنسٌ والسّعادةُ تَنفَحُ ** وكلُّ إناءٍ بالّذي فيهِ يَنضَحُ
أولوا العَرجِ والأملاكِ طُرُّهُمُ صَبُّ ** ففي نُورِها كلٌّ يجيءُ ويَذهَبُ
تفانوا بها غيبًا فجوّاهمُ الحبُّ ** فكيف بمن يهواها لو زالتِ الحُجْبُ
فهذا له وجدٌ وذاكَ مُشاهدٌ ** تعدّدتِ الأسبابُ والحُبُّ واحدُ
دعُو قلبيَ النّشوانَ بعدَ نحِيبِهِ ** فكلٌّ له عُرسٌ بذكرِ حبيبِهِ
إذا أَنِستْ رُوحي بنعلِ الحبائِبِ ** فتلك صلّاتي في اللّيالي الرّغائبِ
جعلْتُها لي خِلًّا لعلّني أهتدي ** وكلُّ قرينٍ بالمقارَنِ يَقْتدي
غزلتُ لها شوقي يُدَبِّجُهُ الوجدُ ** وفي عُنُقِ الحسناءِ يُستحْسَنُ العِقْدُ
لإن كانتِ التّيجانُ يُونِقُها الشِّعرُ ** فإنّها ممدوحٌ بها النّظمُ والنّثرُ
ولو أنَّني أطْريتُ فيها مَدى الدّهرِ ** لَكنتُ كمَن يَهدي المياهَ إلى البَحْرِ
حذاري حذاري يا أُولاءِ مِن الفصلِ ** فمنشكّفي المجلىكمن شكّفيالأصل
فما النّعلُ إلّا صورةٌ تتبسَمُ ** وكلُّ لبيبٍ بالإشارةِ يَفهمُ
سيكشَفُ معناها إذا احتدَمَ الحـشرُ ** وفي اللّيلةِ الظّلماءِ يُفتقدُ البَدرُ
بداري ياقومي هيّا للنعلِ نَشهدُ ** كما كنّا بالأرواحِ والعودُ أحمدُ
انتهت ولله الحمد
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمْ دارَةَ العَلَمِ ... وَاحْدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وَإِن مَرَرتَ عَلى الرَّوحَاءِ فَامْرِ لَها ... أَخلافَ سارِيَةٍ هَتّانَةِ الدِّيَمِ
مِنَ الغِزارِ اللَّواتي في حَوالِبِها ... رِيُّ النَّواهِلِ مِن زَرعٍ وَمِن نَعَمِ
إِذا استَهَلَّت بِأَرضٍ نَمْنَمَتْ يَدُهَا ... بُرْداً مِنَ النَّوْرِ يَكسُو عارِيَ الأَكَمِ
تَرى النَّباتَ بِها خُضْراً سَنابِلُهُ ... يَختَالُ في حُلَّةٍ مَوشِيَّةِ العَلَمِ
أَدعُو إِلى الدَّارِ بِالسُّقيا وَبِي ظَمَأٌ ... أَحَقُّ بِالرِّيِّ لَكِنّي أَخُو كَرَمِ
مَنازِلٌ لِهَواها بَينَ جانِحَتي ... وَدِيعَةٌ سِرُّها لَمْ يَتَّصِلْ بِفَمِي
إِذا تَنَسَّمتُ مِنها نَفحَةً لَعِبَت ... بِيَ الصَبابَةُ لِعبَ الريحِ بِالعَلَمِ
أَدِر عَلى السَّمعِ ذِكراها فَإِنَّ لَها ... في القَلبِ مَنزِلَةً مَرعِيَّةَ الذِمَمِ
عَهدٌ تَوَلّى وَأَبقى في الفُؤادِ لَهُ ... شَوقاً يَفُلُّ شَباةَ الرَأيِ وَالهِمَمِ
إِذا تَذَكَّرتُهُ لاحَت مَخائِلُهُ ... لِلعَينِ حَتّى كَأَنّي مِنهُ في حُلُمِ
فَما عَلى الدَّهرِ لَو رَقَّت شَمائِلُهُ ... فَعادَ بِالوَصل أَو أَلقَى يَدَ السَّلَمِ
تَكاءَدَتني خُطُوبٌ لَو رَمَيتُ بِها ... مَناكِبَ الأَرض لَم تَثبُتْ عَلى قَدَمِ
في بَلدَةٍ مِثلِ جَوفِ العَير لَستُ أَرى ... فيها سِوَى أُمَمٍ تَحنُو عَلَى صَنَمِ
لا أَستَقِرُّ بِها إِلاّ عَلى قَلَقٍ ... وَلا أَلَذُّ بِها إِلاّ عَلَى أَلَمِ
إِذا تَلَفَّتُّ حَولي لَم أَجد أَثَراً ... إِلا خَيالي وَلَم أَسمَع سِوى كَلِمي
فَمَن يَرُدُّ عَلى نَفسي لُبانَتَها ... أَو مَن يُجيرُ فُؤادِي مِن يَدِ السَّقَمِ
لَيتَ القَطا حِينَ سارَت غُدوَةً حَمَلَت ... عَنّي رَسائِلَ أَشواقي إِلى إِضَمِ
مَرَّت عَلَينا خِمَاصاً وَهيَ قارِبَةٌ ... مَرَّ العَواصِفِ لا تَلوي عَلى إِرَمِ
لا تُدركُ العَينُ مِنها حينَ تَلمَحُها ... إِلا مِثالاً كَلَمْعِ البَرقِ في الظُّلَمِ
كَأَنَّها أَحرُفٌ بَرقِيَّةٌ نَبَضَت ... بِالسِّلكِ فَانتَشَرَت فِي السَّهل وَالعَلَمِ
لا شَيءَ يَسبِقُها إِلاّ إِذا اِعتَقَلَت ... بَنانَتي في مَديحِ المُصطَفى قَلَمِي
مُحَمَّدٌ خاتَمُ الرُسلِ الَّذي خَضَعَت ... لَهُ البَرِيَّةُ مِن عُربٍ وَمِن عَجَمِ
سَميرُ وَحيٍ وَمَجنى حِكمَةٍ وَنَدى ... سَماحَةٍ وَقِرى عافٍ وَرِيُّ ظَمِ
قَد أَبلَغَ الوَحيُ عَنهُ قَبلَ بِعثَتِهِ ... مَسامِعَ الرُسلِ قَولاً غَيرَ مُنكَتِمِ
فَذاكَ دَعوَةُ إِبراهيمَ خالِقَهُ ... وَسِرُّ ما قالَهُ عِيسى مِنَ القِدَمِ
أَكرِم بِهِ وَبِآباءٍ مُحَجَّلَةٍ ... جاءَت بِهِ غُرَّةً في الأَعصُرِ الدُّهُمِ
قَد كانَ في مَلَكوتِ اللهِ مُدَّخراً ... لِدَعوَةٍ كانَ فيها صاحِبَ العَلَمِ
نُورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ ساطِعُهُ ... تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى رَحِمِ
حَتّى اسْتَقَرَّ بِعَبدِ اللهِ فَاِنبَلَجَت ... أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في البُهُمِ
وَاختارَ آمِنَةَ العَذراءَ صاحِبَةً ... لِفَضلِها بَينَ أَهلِ الحِلِّ وَالحَرَمِ
كِلاهُما فِي العُلا كُفءٌ لِصاحِبِهِ ... وَالكُفءُ في المَجدِ لا يُستامُ بِالقِيَمِ
فَأَصبَحَت عِندَهُ في بَيتِ مَكرُمَةٍ ... شِيدَت دَعائِمُهُ في مَنصِبٍ سِنمِ
وَحِينما حَمَلَت بِالمُصطَفى وَضَعَت ... يَدُ المَشيئَةِ عَنها كُلفَةَ الوَجَمِ
وَلاحَ مِن جِسمِها نُورٌ أَضاءَ لَها ... قُصُورَ بُصرى بِأَرضِ الشَّأمِ مِن أمَمِ
وَمُذ أَتى الوَضعُ وَهوَ الرَّفعُ مَنزِلَةً ... جاءَت بِرُوحٍ بِنُورِ اللهِ مُتَّسِمِ
ضاءَت بِهِ غُرَّةُ الإِثنَينِ وَابتَسَمَت ... عَن حُسنِهِ في رَبيعٍ رَوضَةُ الحَرَمِ
وَأَرضَعَتهُ وَلَم تَيأَس حَليمَةُ مِن ... قَولِ المَراضِعِ إِنَّ البُؤسَ في اليَتَمِ
فَفاضَ بِالدَّرِّ ثَدياها وَقَد غَنِيَت ... لَيالياً وَهيَ لَم تطعَم وَلَم تَنَمِ
وَاِنهَلَّ بَعدَ اِنقِطاعٍ رِسْلُ شارِفِها ... حَتّى غَدَت مِن رَفِيهِ العَيشِ في طُعَمِ
فَيَمَّمَت أَهلَها مَملُوءَةً فَرَحاً ... بِما أُتيحَ لَها مِن أَوفَرِ النِّعَمِ
وَقَلَّصَ الجَدبُ عَنها فَهيَ طاعِمَةٌ ... مِن خَيرِ ما رَفَدَتها ثَلَّةُ الغَنَمِ
وَكَيفَ تَمحَلُ أَرضٌ حَلَّ ساحَتَها ... مُحَمَّدٌ وَهوَ غَيثُ الجُودِ وَالكَرَمِ
فَلَم يَزَل عِندَها يَنمُو وَتَكلَؤُهُ ... رِعايَةُ اللهِ مِن سُوءٍ وَمِن وَصَمِ
حَتّى إِذا تَمَّ مِيقاتُ الرَّضاعِ لَهُ ... حَولَينِ أَصبَحَ ذا أَيدٍ عَلَى الفُطُمِ
وَجاءَ كَالغُصنِ مَجدُولاً تَرِفُّ عَلى ... جَبِينِهِ لَمحاتُ المَجدِ وَالفَهَمِ
قَد تَمَّ عَقلاً وَما تَمَّت رَضاعَتُهُ ... وَفاضَ حِلماً وَلَم يَبلُغ مَدى الحُلُمِ
فَبَينَما هُوَ يَرعى البَهْمَ طافَ بِهِ ... شَخصانِ مِن مَلَكوتِ اللهِ ذي العِظَمِ
فَأَضجَعاهُ وَشَقّا صَدرَهُ بِيَدٍ ... رَفِيقَةٍ لَم يَبِت مِنها عَلى أَلَمِ
وَبَعدَ ما قَضَيا مِن قَلبِهِ وَطَراً ... تَوَلَّيا غَسلَهُ بِالسَّلسَلِ الشَّبِمِ
ما عالَجا قَلبَهُ إِلا لِيَخلُصَ مِن ... شَوبِ الهَوى وَيَعِي قُدسِيَّةَ الحِكَمِ
فَيا لَها نِعمَةً للهِ خَصَّ بِها ... حَبيبَهُ وَهوَ طِفلٌ غَيرُ مُحتَلِمِ
وَقالَ عَنهُ بَحِيرا حِينَ أَبصَرَهُ ... بِأَرْضِ بُصرى مَقالاً غَيرَ مُتَّهَمِ
إِذ ظَلَّلَتهُ الغَمامُ الغُرُّ وَانهَصَرَت ... عَطفاً عَلَيهِ فُروعُ الضَّالِ وَالسَّلَمِ
بِأَنَّهُ خاتَمُ الرُّسلِ الكِرامِ وَمَن ... بِهِ تَزُولُ صُرُوفُ البُؤسِ وَالنِّقَمِ
هَذا وَكَم آيَةٍ سارَت لَهُ فَمَحَت ... بِنُورِها ظُلمَةَ الأَهوالِ وَالقُحَمِ
ما مَرَّ يَومٌ لَهُ إِلا وَقَلَّدَهُ ... صَنائِعاً لَم تَزَل فِي الدَّهرِ كَالعَلَمِ
حَتّى اسْتَتَمَّ وَلا نُقصانَ يَلحَقُهُ ... خَمساً وَعِشرِينَ سِنُّ البارِعِ الفَهِمِ
وَلَقَّبَتهُ قُرَيشٌ بِالأَمينِ عَلى ... صِدقِ الأَمانَةِ وَالإِيفاءِ بِالذِّمَمِ
وَدَّت خَديجَةُ أَن يَرعى تِجارَتَها ... وِدادَ مُنتَهِزٍ لِلخَيرِ مُغتَنِمِ
فَشَدَّ عَزمَتَها مِنهُ بِمُقتَدِرٍ ... ماضِي الجِنانِ إِذا ما هَمَّ لَم يخمِ
وَسارَ مُعتَزِماً لِلشَّأمِ يَصحَبُهُ ... في السَّيرِ مَيسُرَةُ المَرضِيُّ فِي الحَشَمِ
فَما أَناخَ بِها حَتّى قَضى وَطَراً ... مِن كُلِّ ما رَامَهُ في البَيعِ وَالسَّلَمِ
وَكَيفَ يَخسَرُ مَن لَولاهُ ما رَبِحَت ... تِجارَةُ الدِّينِ في سَهلٍ وَفِي عَلَمِ
فَقَصَّ مَيسُرَةُ المَأمونُ قِصَّتَهُ ... عَلَى خَديجَةَ سَرداً غَيرَ مُنعَجِمِ
وَما رَواهُ لَهُ كَهلٌ بِصَومَعَةٍ ... مِنَ الرَّهابينِ عَن أَسلافِهِ القُدُمِ
في دَوحَةٍ عاجَ خَيرُ المُرسَلينَ بِها ... مِن قَبل بعثَتِهِ لِلعُربِ وَالعَجَمِ
هَذا نَبِيٌّ وَلَم يَنزِل بِساحَتِها ... إِلا نَبيٌّ كَريمُ النَّفسِ وَالشِّيَمِ
وَسِيرَةَ المَلَكَينِ الحائِمَينِ عَلى ... جَبِينِهِ لِيُظِلاَّهُ مِنَ التّهَمِ
فَكانَ ما قَصَّهُ أَصلاً لِما وَصَلَت ... بِهِ إِلى الخَيرِ مِن قَصدٍ وَمُعتَزَمِ
أَحسِن بِها وصلَةً في اللَّهِ قَد أَخَذَت ... بِها عَلى الدَّهرِ عَقداً غَيرَ مُنفَصِمِ
فَأَصبَحا في صَفاءٍ غَير مُنقَطِعٍ ... عَلى الزَّمانِ وَوِدٍّ غَير مُنصَرِمِ
وَحِينَما أَجمَعَت أَمراً قُرَيشُ عَلى ... بِنايَةِ البَيتِ ذي الحُجّابِ وَالخَدَمِ
تَجَمَّعَت فِرَقُ الأَحلافِ وَاقتَسَمَت ... بِناءَهُ عَن تَراضٍ خَيرَ مُقتَسَمِ
حَتّى إِذا بَلَغَ البُنيانُ غايَتَهُ ... مِن مَوضِعِ الرُّكنِ بَعدَ الكَدِّ وَالجشَمِ
تَسابَقوا طَلَباً لِلأَجرِ وَاِختَصَمُوا ... فِيمَن يَشُدُّ بِناهُ كُلَّ مُختَصَمِ
وَأَقسَمَ القَومُ أَن لا صُلحَ يَعصِمُهُم ... مِن اقتِحامِ المَنايا أَيّما قَسَمِ
وَأَدخَلوا حينَ جَدَّ الأَمرُ أَيدِيَهُم ... لِلشَرِّ في جَفنَةٍ مَملُوءَةٍ بِدَمِ
فَقالَ ذُو رَأيِهِم لا تَعجَلُوا وَخُذُوا ... بِالحَزم فَهوَ الَّذي يَشفِي مِنَ الحَزَمِ
لِيَرضَ كُلُّ امرِئٍ مِنّا بِأَوَّلِ مَن ... يَأتي فَيَقسِطُ فِينا قِسطَ مُحتَكِمِ
فَقالَ كُلٌّ رَضينا بِالأَمينِ عَلَى ... عِلمٍ فَأَكرِم بِهِ مِن عادِلٍ حَكَمِ
فَكانَ أَوَّلَ آتٍ بَعدَما اتَّفَقُوا ... مُحَمَّدٌ وَهوَ في الخَيراتِ ذُو قَدَمِ
فَأَعلَمُوهُ بِما قَد كانَ وَاِحتَكَمُوا ... إِلَيهِ في حَلِّ هَذا المُشكِلِ العَمَمِ
فَمَدَّ ثَوباً وَحَطَّ الرُّكنَ في وَسَطٍ ... مِنهُ وَقالَ اِرفَعُوهُ جانِبَ الرَّضَمِ
فَنالَ كُلُّ امرِئٍ حَظّاً بِما حَمَلَت ... يَداهُ مِنهُ وَلَم يَعتِب عَلى القِسَمِ
حَتّى إِذا اِقتَرَبوا تِلقاءَ مَوضِعِهِ ... مِن جانب البَيتِ ذي الأَركان وَالدّعمِ
مَدَّ الرَّسُولُ يَداً مِنهُ مُبارَكَةً ... بَنَتهُ في صَدَفٍ مِن باذِخٍ سَنِمِ
فَليَزدَدِ الرُّكنُ تِيهاً حَيثُ نالَ بِهِ ... فَخراً أَقامَ لَهُ الدُّنيا عَلَى قَدَمِ
لَو لَم تَكُن يَدُهُ مَسَّتهُ حِينَ بَنَى ... ما كانَ أَصبَحَ مَلثُوماً بِكُلِّ فَمِ
يا لَيتَنِي وَالأَمانِي رُبَّما صَدَقَت ... أَحْظَى بِمُعتَنَقٍ مِنهُ وَمُلتَزَمِ
يا حَبَّذا صِبغَةٌ مِن حُسنِهِ أَخَذَت ... مِنْهَا الشَّبِيبَةُ لَونَ العُذرِ وَاللَّمَمِ
كَالخالِ في وَجنَةٍ زِيدَت مَحاسِنُها ... بِنُقطَةٍ مِنهُ أَضعافاً مِنَ القِيَمِ
وَكَيفَ لا يَفخَرُ البَيتُ العَتيقُ بِهِ ... وَقَد بَنَتهُ يَدٌ فَيّاضَةُ النِّعَمِ
أَكرِم بِهِ وازِعاً لَولا هِدايَتُهُ ... لَم يَظهَرِ العَدلُ في أَرضٍ وَلَم يَقُمِ
هَذا الَّذي عَصَمَ اللَّهُ الأَنامَ بِهِ ... مِن كُلِّ هَولٍ مِنَ الأَهوالِ مُختَرِمِ
وَحِينَ أَدرَكَ سِنَّ الأَربَعينَ وَما ... مِن قَبلِهِ مَبلَغٌ لِلعِلمِ وَالحِكَمِ
حَباهُ ذُو العَرشِ بُرهاناً أَراهُ بِهِ ... آيات حِكمَتِهِ في عالَمِ الحُلُمِ
فَكانَ يَمضي لِيَرعى أُنسَ وَحشَتِهِ ... في شاسِعٍ ما بِهِ لِلخَلقِ مِن أَرَمِ
فَما يمُرُّ عَلى صَخرٍ وَلا شَجَرٍ ... إِلّا وَحَيّاهُ بِالتَّسليمِ مِن أَمَمِ
حَتّى إِذا حانَ أَمرُ الغَيبِ وَانحَسَرَت ... أَستارُهُ عَن ضَميرِ اللَوحِ وَالقَلَمِ
نادى بِدَعوَتِهِ جَهراً فَأَسمَعَها ... في كُلِّ ناحِيةٍ مَن كانَ ذا صَمَمِ
فَكانَ أَوَّلُ مَن في الدِّين تابَعَهُ ... خَدِيجَةٌ وَعَلِيٌّ ثابِتُ القَدَمِ
ثُمَّ استَجابَت رِجالٌ دُونَ أُسرَتِهِ ... وَفي الأَباعِدِ ما يُغني عَنِ الرَّحِمِ
وَمَن أَرادَ بِهِ الرَّحمنُ مَكرُمَةً ... هَداهُ لِلرُّشدِ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ
ثُمَّ استَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ مُعتَزِماً ... يَدعُو إلى رَبِّهِ في كُلِّ مُلتَأَمِ
وَالنّاسُ مِنهُم رَشيدٌ يَستَجِيبُ لَهُ ... طَوعاً وَمِنهُم غَوِيٌّ غَيرُ مُحتَشِمِ
حَتّى استَرابَت قُرَيشٌ وَاِستَبَدَّ بِها ... جَهلٌ تَرَدَّت بِهِ في مارِجٍ ضَرِمِ
وَعَذَّبوا أَهلَ دِينِ اللَّهِ وَاِنتَهَكوا ... مَحارِماً أَعقَبَتهُم لَهفَةَ النَّدَمِ
وَقامَ يَدعُو أَبو جَهلٍ عَشِيرَتَهُ ... إِلى الضَّلالِ وَلَم يَجنَح إِلى سَلَمِ
يُبدِي خِدَاعاً ويُخفِي ما تَضَمَّنَهُ ... ضَمِيرُهُ مِن غَراةِ الحِقد وَالسَّدَمِ
لا يَسلَمُ القَلبُ مِن غِلٍّ أَلَمَّ بِهِ ... يَنقى الأَدِيمُ وَيَبقى مَوضِعُ الحَلَمِ
وَالحِقدُ كَالنّارِ إِن أَخفَيتَهُ ظَهَرَت ... مِنهُ عَلائِمُ فَوقَ الوَجهِ كَالحُمَمِ
لا يُبصِرُ الحَقَّ مَن جَهلٌ أَحاطَ بِهِ ... وَكَيفَ يُبصِرُ نُورَ الحَقِّ وَهوَ عَمِ
كُلُّ امرِئٍ وَاجِدٌ ما قَدَّمَت يَدُهُ ... إِذا اِستَوى قائِماً مِن هُوَّةِ الأَدَمِ
وَالخَيرُ وَالشَّرُّ في الدُّنيا مُكافَأَةٌ ... وَالنَّفسُ مَسؤولَةٌ عَن كُلِّ مُجتَرَمِ
فَلا يَنَم ظالِمٌ عَمّا جَنَت يَدُهُ ... عَلى العِبادِ فَعَينُ اللَّهِ لَم تَنَمِ
وَلَم يَزَل أَهلُ دِين اللَّهِ في نَصَبٍ ... مِمّا يُلاقُونَ مِن كَربٍ وَمِن زَأَمِ
حَتّى إِذا لَم يَعُد في الأَمر مَنزَعَةٌ ... وَأَصبَحَ الشَّرُّ جَهراً غَيرَ مُنكَتِمِ
سارُوا إِلى الهِجرَةِ الأُولى وَما قَصَدوا ... غَيرَ النَّجاشِيِّ مَلكاً صادِقَ الذِّمَمِ
فَأَصبَحُوا عِندَهُ في ظِلِّ مَملَكَةٍ ... حَصِينَةٍ وذِمامٍ غَيرِ مُنجَذِمِ
مَن أَنكَرَ الضَّيمَ لَم يَأنَس بِصُحبَتِهِ ... وَمَن أَحاطَت بِهِ الأَهوالُ لَم يُقِمِ
وَمُذ رَأى المُشرِكون الدّين قَد وضَحَت ... سَماؤُهُ وَاِنجَلَت عَن صِمَّةِ الصِّمَمِ
تَأَلَّبُوا رَغبَةً في الشَّرِّ وَائتَمَرُوا ... عَلى الصَّحيفَةِ مِن غَيظٍ وَمِن وَغَمِ
صَحِيفَةٌ وَسَمَت بِالغَدرِ أَوجُهَهُم ... وَالغَدرُ يَعلَقُ بِالأَعراضِ كَالدَّسَمِ
فَكَشَّفَ اللَّهُ مِنها غُمَّةً نَزَلَت ... بِالمُؤمِنينَ وَرَبِّي كاشِفُ الغُمَمِ
مَن أَضمَرَ السُّوءَ جازاهُ الإِلَهُ بِهِ ... وَمَن رَعى البَغْيَ لَم يَسْلَم مِنَ النِّقَمِ
كَفى الطُّفَيلَ بنَ عَمرٍو لُمعَةٌ ظَهَرَت ... فِي سَوطِهِ فَأَنارَت سُدْفَةَ القَتَمِ
هَدى بِها اللَّهُ دَوساً مِن ضَلالَتِها ... فَتابَعَت أَمرَ داعِيها وَلَم تَهِمِ
وَفِي الإِراشِيِّ لِلأَقوامِ مُعتَبَرٌ ... إِذْ جاءَ مَكَّةَ فِي ذَودٍ مِنَ النَّعَمِ
فَباعَها مِن أَبي جَهلٍ فَماطَلَهُ ... بِحَقِّهِ وَتَمادى غَيرَ مُحتَشِمِ
فَجاءَ مُنتَصِراً يَشكُو ظُلامَتَهُ ... إِلى النَّبِيِّ ونِعمَ العَونُ في الإِزَمِ
فَقامَ مُبتَدِراً يَسعى لِنُصرَتِهِ ... وَنُصرَةُ الحَقِّ شَأنُ المَرءِ ذِي الهِمَمِ
فَدَقَّ بابَ أَبي جَهلٍ فَجاءَ لَهُ ... طَوعاً يَجُرُّ عِنانَ الخائِفِ الزَّرِمِ
فَحِينَ لاَقَى رَسُولَ اللَّهِ لاَحَ لَهُ ... فَحْلٌ يَحُدُّ إِلَيهِ النَّابَ مِن أَطَمِ
فَهالَهُ ما رَأى فَارتَدَّ مُنزَعِجاً ... وَعادَ بِالنَّقدِ بَعدَ المَطلِ عَن رَغَمِ
أَتِلكَ أَمْ حِينَ نادى سَرْحَةً فَأَتَت ... إِلَيهِ مَنشُورَةَ الأَغصانِ كَالجُمَمِ
حَنَّت عَلَيهِ حُنُوَّ الأُمِّ مِن شَفَقٍ ... وَرَفرَفَت فَوقَ ذاكَ الحُسنِ مِن رَخَمِ
جاءَتهُ طَوعاً وَعادَت حينَ قالَ لَها ... عُودِي وَلو خُلِّيَتْ لِلشَّوقِ لَم تَرِمِ
وَحَبَّذا لَيلَةُ الإِسراءِ حِينَ سَرى ... لَيلاً إِلى المَسجِدِ الأَقصى بِلا أَتَمِ
رَأَى بِهِ مِن كِرامِ الرُّسلِ طائِفَةً ... فَأَمَّهُم ثُمَّ صَلَّى خاشِعاً بِهِمِ
بَل حَبَّذا نَهضَةُ المِعراجِ حينَ سَما ... بِهِ إِلى مَشهَدٍ في العزِّ لَم يُرَمِ
سَما إِلى الفَلَك الأَعلى فَنالَ بِهِ ... قَدراً يَجِلُّ عَن التَّشبيهِ في العِظَمِ
وَسارَ في سُبُحاتِ النُّورِ مُرتَقِياً ... إِلى مَدارِجَ أَعيَت كُلَّ مُعتَزِمِ
وَفازَ بِالجَوهَرِ المَكنونِ مِن كَلِمٍ ... لَيسَت إِذا قُرِنَت بِالوَصفِ كَالكَلِمِ
سِرٌّ تَحارُ بِهِ الأَلبابُ قاصِرَةً ... وَنِعمَةٌ لَم تَكُن في الدَّهرِ كَالنِّعَمِ
هَيهاتَ يَبلُغُ فَهمٌ كُنهَ ما بَلَغَت ... قُرباهُ مِنهُ وَقَد ناجاهُ مِن أَمَمِ
فَيا لَها وصلَةً نالَ الحَبيبُ بِها ... ما لَم يَنَلهُ مِنَ التَّكريمِ ذُو نَسَمِ
فاقَت جَميعَ اللَّيالي فَهيَ زاهِرَةٌ ... بِحُسنِها كَزُهُورِ النّارِ في العَلَمِ
هَذا وَقَد فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلى ... عِبادِهِ وَهَداهُم واضِحَ اللَّقَمِ
فَسارَعُوا نَحوَ دِينِ اللَّهِ وَانتَصَبُوا ... إِلى العِبادَةِ لا يَألُونَ مِن سَأَمِ
وَلَم يَزَل سَيِّدُ الكَونَينِ مُنتَصِباً ... لِدَعوَةِ الدِّين لَم يَفتر وَلَم يَجِمِ
يَستَقبِلُ النّاسَ في بَدوٍ وَفي حَضَرٍ ... وَيَنشُرُ الدِّينَ في سَهلٍ وَفي عَلَمِ
حَتّى اسْتَجابَت لَهُ الأَنصارُ وَاعْتَصَمُوا ... بِحَبلِهِ عَن تَراضٍ خَيرَ مُعتَصمِ
فَاستَكمَلَت بِهِمُ الدُنيا نَضارَتَها ... وَأَصبَحَ الدينُ في جَمعٍ بِهِم تَمَمِ
قَومٌ أَقَرُّوا عِمادَ الحَقِّ وَاصطَلَمُوا ... بِيَأسِهِم كُلَّ جَبَّارٍ وَمُصطَلِمِ
فَكَم بِهِم أَشرَقَت أَستارُ داجِيَةٍ ... وَكَم بِهِم خَمَدَت أَنفاسُ مُختَصِمِ
فَحينَ وافى قُرَيشاً ذِكرُ بَيعَتِهِم ... ثارُوا إِلى الشَّرِّ فِعلَ الجاهِلِ العَرِمِ
وَبادَهُوا أَهلَ دِينِ اللَهِ وَاهتَضَمُوا ... حُقُوقَهُم بِالتَّمادِي شَرَّ مُهتَضَمِ
فَكَم تَرى مِن أَسيرٍ لا حِراكَ بِهِ ... وَشارِدٍ سارَ مِن فَجٍّ إِلى أَكَمِ
فَهاجَرَ الصَّحبُ إِذ قالَ الرَّسُولُ لَهُم ... سيرُوا إِلى طَيْبَةَ المَرعِيَّةِ الحُرَمِ
وَظَلَّ في مَكَّةَ المُختارُ مُنتَظِراً ... إِذْناً مِنَ اللهِ في سَيرٍ وَمُعتَزَمِ
فَأَوجَسَت خيفَةً مِنهُ قُرَيشُ وَلَم ... تَقبَلْ نَصِيحاً وَلَم تَرجِعْ إِلى فَهَمِ
فَاستَجمَعَت عُصَباً في دارِ نَدوَتِها ... تَبغي بِهِ الشَّرَّ مِن حِقدٍ وَمِن أَضَمِ
وَلَو دَرَتْ أَنَّها فِيما تُحاوِلُهُ ... مَخذولَةٌ لَم تَسُمْ في مَرتَعٍ وَخِمِ
أَولى لَها ثُمَ أَولى أَن يَحيقَ بِها ... ما أَضمَرَتهُ مِنَ البَأساءِ وَالشَّجَمِ
إِنّي لَأَعجَبُ مِن قَومٍ أُولي فِطَنٍ ... بَاعُوا النُّهَى بِالعَمَى وَالسَّمْعَ بِالصَّمَمِ
يَعْصُونَ خالِقَهُم جَهلاً بِقُدرَتِهِ ... وَيَعكُفُونَ عَلَى الطَّاغُوتِ وَالصَّنَمِ
فَأَجمَعُوا أَمرَهُم أَن يَبْغتُوهُ إِذا ... جَنَّ الظَّلامُ وَخَفَّت وَطْأَةُ القَدَمِ
وَأَقبَلُوا مَوهِناً في عُصبَةٍ غُدُرٍ ... مِنَ القَبائِلِ باعُوا النَّفسَ بِالزَّعَمِ
فَجاءَ جِبريلُ لِلهادِي فَأَنبأَهُ ... بِما أَسَرُّوهُ بَعدَ العَهدِ وَالقَسَمِ
فَمُذ رَآهُم قِياماً حَولَ مَأمَنِهِ ... يَبغُونَ ساحَتَهُ بِالشَّرِّ وَالفَقَمِ
نادى عَلِيّاً فَأَوصاهُ وَقالَ لَهُ ... لا تَخشَ وَالبَس رِدائي آمِناً وَنَمِ
وَمَرَّ بِالقَومِ يَتْلُو وَهْوَ مُنصَرِفٌ ... يَس وَهيَ شِفاءُ النَّفسِ مِن وَصَمِ
فَلَم يَرَوهُ وَزاغَت عَنهُ أَعيُنُهُم ... وَهَل تَرى الشَّمس جَهراً أَعيُنُ الحَنَمِ
وَجاءَهُ الوَحيُ إِيذاناً بِهِجرَتِهِ ... فَيَمَّمَ الغارَ بِالصِّدِّيقِ في الغَسَمِ
فَمَا اسْتَقَرَّ بِهِ حَتّى تَبَوَّأَهُ ... مِنَ الحَمائِمِ زَوجٌ بارِعُ الرَّنَمِ
بَنى بِهِ عُشَّهُ وَاحْتَلَّهُ سَكَناً ... يَأوي إِلَيهِ غَداةَ الرِّيحِ وَالرَّهَمِ
إِلفانِ ما جَمَعَ المِقدارُ بَينَهُما ... إِلّا لِسِرٍّ بِصَدرِ الغَارِ مُكْتَتَمِ
كِلاهُما دَيدَبانٌ فَوقَ مَربأَةٍ ... يَرعَى المَسالِكَ مِن بُعدٍ وَلَم يَنَمِ
إِن حَنَّ هَذا غَراماً أَو دَعا طَرَباً ... بِاسمِ الهَديلِ أَجابَت تِلكَ بِالنَّغَمِ
يَخالُها مَن يَراها وَهيَ جاثِمَةٌ ... في وَكرِها كُرَةً مَلساءَ مِن أَدَمِ
إِن رَفرَفَت سَكَنَت ظِلّاً وَإِن هَبَطَت ... رَوَت غَليلَ الصَّدى مِن حائِرٍ شَبِمِ
مَرقُومَةُ الجِيدِ مِن مِسكٍ وَغالِيَةٍ ... مَخضُوبَةُ الساقِ وَالكَفَّينِ بِالعَنَمِ
كَأَنَّما شَرَعَت في قانِئٍ سربٍ ... مِن أَدمُعِي فَغَدَت مُحمَرَّةَ القَدَمِ
وَسَجفَ العَنكَبُوتُ الغارَ مُحتَفِياً ... بِخَيمَةٍ حاكَها مِن أَبدَعِ الخِيَمِ
قَد شَدَّ أَطنابَها فَاِستَحكَمَت وَرَسَت ... بِالأَرضِ لَكِنَّها قامَت بِلا دِعَمِ
كَأَنَّها سابِريٌّ حاكَهُ لَبِقٌ ... بِأَرضِ سابُورَ في بحبُوحَةِ العَجَمِ
وَارَت فَمَ الغارِ عَن عَينٍ تُلِمُّ بِهِ ... فَصارَ يَحكي خَفاءً وَجهَ مُلتَثِمِ
فَيا لَهُ مِن سِتارٍ دُونَهُ قَمَرٌ ... يَجلُو البَصائِرَ مِن ظُلمٍ وَمِن ظُلَمِ
فَظَلَّ فيهِ رَسولُ اللَّهِ مُعتَكِفاً ... كَالدُرِّ في البَحر أَو كَالشَّمْسِ في الغَسَمِ
حَتّى إِذا سَكَنَ الإِرْجَافِ وَاحْتَرقَت ... أَكْبَادُ قَومٍ بِنَارِ اليَأسِ وَالوَغَمِ
أَوحى الرَّسولُ بِإِعدادِ الرَّحيلِ إِلى ... مَن عِندَهُ السِّرُّ مِن خِلٍّ وَمِن حَشَمِ
وَسارَ بَعدَ ثَلاثٍ مِن مَباءَتِهِ ... يَؤُمُّ طَيْبَةَ مَأوى كُلِّ مُعتَصِمِ
فَحِينَ وَافى قُدَيداً حَلَّ مَوكِبُهُ ... بِأُمِّ مَعبَدَ ذاتِ الشَّاءِ وَالغَنَمِ
فَلَم تَجِد لِقِراهُ غَيرَ ضائِنَةٍ ... قَدِ اقشَعَرَّت مَراعِيها فَلَم تَسُمِ
فَما أَمَرَّ عَلَيها داعِياً يَدَهُ ... حَتّى اسْتَهَلَّت بِذِي شَخبَيْنِ كَالدِّيَمِ
ثُمَّ استَقَلَّ وَأَبقى في الزَّمانِ لَها ... ذِكراً يَسيرُ عَلَى الآفاق كَالنَّسَمِ
فَبَينَما هُوَ يَطوي البِيدَ أَدرَكَهُ ... رَكضاً سُراقَةُ مِثلَ القَشعَمِ الضَّرِمِ
حَتَّى إِذا ما دَنَا سَاخَ الجَوادُ بِهِ ... في بُرقَةٍ فَهَوَى لِلسَّاقِ وَالقَدَمِ
فَصَاحَ مُبتَهِلاً يَرجُو الأَمانَ وَلَو ... مَضَى عَلَى عَزْمِهِ لانْهَارَ في رَجَمِ
وَكَيفَ يَبلُغُ أَمراً دُونَهُ وَزَرٌ ... مِنَ العِنايةِ لَم يَبلُغهُ ذُو نَسَمِ
فَكَفَّ عَنهُ رَسولُ اللَّهِ وَهْوَ بِهِ ... أَدْرَى وَكَمْ نِقَمٍ تفتَرُّ عَن نِعَمِ
وَلَم يَزَل سائِراً حَتّى أَنافَ عَلى ... أَعلامِ طَيبَةَ ذاتِ المَنظَرِ العَمَمِ
أَعظِم بِمَقدَمِهِ فَخراً وَمَنقبَةً ... لِمَعشَرِ الأَوسِ وَالأَحياءِ مِن جُشَمِ
فَخرٌ يَدُومُ لَهُم فَضلٌ بِذِكرَتِهِ ... ما سارَت العِيسُ بِالزُّوّارِ لِلحَرَمِ
يَومٌ بِهِ أَرَّخَ الإِسلامُ غُرَّتَهُ ... وَأَدرَكَ الدِّينُ فيهِ ذِروَةَ النُّجُمِ
ثُمَّ ابتَنَى سَيِّدُ الكَونَينِ مَسْجِدَهُ ... بُنيانَ عِزٍّ فَأَضحى قائِمَ الدّعَمِ
وَاخْتَصَّ فيهِ بِلالاً بِالأَذانِ وَما ... يُلفى نَظيرٌ لَهُ في نَبرَةِ النَّغَمِ
حَتّى إِذا تَمَّ أَمرُ اللهِ وَاجْتَمَعَت ... لَهُ القبَائِلُ مِن بُعْدٍ وَمِن زَمَمِ
قامَ النَّبِيُّ خَطيباً فيهِمُ فَأَرى ... نَهجَ الهُدى وَنَهى عَن كُلِّ مُجتَرَمِ
وَعَمَّهم بِكِتابٍ حَضَّ فيهِ عَلى ... مَحاسِنِ الفَضلِ وَالآدابِ وَالشِّيمِ
فَأَصبَحُوا في إِخاءٍ غَيرِ مُنصَدِعٍ ... عَلى الزَّمانِ وَعِزٍّ غَيرِ مُنهَدِمِ