البسطامي... أستاذ الحلاج الذي اختلف العلماء في أحواله وأقواله
لم يختلف العلماء والفقهاء والمتصوّفة على أحد في تاريخ التصوف الإسلامي أكثر من اختلافهم عليه. فثمة من نسب إليه شطحات تخرج من الملة، وثمة من تحدث له عن كرامات تخلب الألباب. لكنْ ثمة اتفاق على أنه هو من أسّس {الشطح} في التصوف، وفتح الباب واسعاً أمام الحلاج، ليأتي ويهذي ويصلب ويقتل.
هو أبو يزيد طيفور بن عيسى البِسطامِي، كان جده زرادشتيًا من أهل بسطام وأسلم، اسمه الفارسي بايزيد وعرف كذلك باسم طيفور، وله أخوان هما آدم وعلي، وكانا من الزاهدين. لكن أبا يزيد أجلّهم حالاً ومقاماً. وقد تتلمذ البسطامي على يدي شيخ المشايخ أبي الحسن الخرقاني، ومصطفى البكري شيخ الطريقة الخلوتية، حيث أعطاه عهد الطريقة النقشبندية.
قال عنه ابن عربي في {المواهب السرمدية}: هو القطب الغوث في زمانه حيث ذكر: من الأقطاب من يكون ظاهر الحكم، ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، ومنهم من له الخلافة الباطنة ولا حكم له في الظاهرة كأبي يزيد. وأنه لما تكلم في علوم الحقائق ولم يفهم أهل عصره كلامه رموه بالعظائم ونفوه من بلده سبع مرات وهم في كل مرة يختل أمرهم وينزل بهم البلاء حتى أذعنوا له وأجمعوا تعظيمه.
ووصفه أبو الحسن الشاذلي بأن له صولة بل كلامه من أقوى ما تقرأ من كلام سادتنا الأولياء رضي الله عنهم وأسرعه تأثيراً.
وأشهر ما يروي عن البسطامي قصته مع أحد القساوسة تقول: في يوم من الأيام ذهب الشيخ البسطامي لزيارة أحد أصدقائه النصارى، وهو جالس عنده في البيت عرض عليه النصراني أن يذهب معه إلى الدير، فقال له: كيف لي أن أذهب إلى الدير وأنا مسلم وكل سوف يعرفني. قال له: لا عليك تخفى بلبس أعطيك إياها. فوافقه وذهب معه. ودخل إلى الدير، وكل هناك متجمع جالس ينتظر القسيس، ليلقي عليهم عظته. وعند الانتظار دخل القس، والكل صمت، وجلس على الكرسي الخاص به ولم يتكلم، فسألوه: ما بك يا أبانا لا تتحدث؟ قال: ما أنا بمتحدث حتى يخرج المحمدي من بينكم. وتفاجأ الجميع بهذا الكلام وتساءلوا: كيف يجرؤ المحمدي على الدخول إلى هذا المكان، ورفعوا سيوفهم يريدون أن يفتكوا به، ولكن القس استوقفهم، وقال: لن يخرج حتى تعطوه الأمان، فخفضوا أسلحتهم. وقال له القس: أخرج عليك الأمان. قالوا: كيف عرفته؟ قال: إن أمة محمد معروفة وتلى قوله {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}.
فوقف الشيخ البسطامي ولم يخرج، فقال له القس: أخرج. قال ما أنا بخارج. فقال له: سوف نسمح لك أن تجلس معنا بشرط أن تجيب على كل الأسئلة التي سوف نسألها لك، وإذا تعثرت بسؤال واحد سوف نقطع رأسك. فوافق البسطامي. فقال له القس:
- ما الواحد الذي لا ثاني له؟
قال: قل هو الله أحد.
- ما الاثنان اللذان لا ثالث لهما؟
قال: الليل والنهار.
ـ ما الثلاثة التي لا رابع لها؟
قال: أعذار موسى للخضر وهي: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.
- ما الأربعة التي لا خامس لها؟
قال: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن الكريم.
- ما الخمسة التي لا سادس لها؟
قال: الصلوات الخمس.
- ما الستة التي لا سابع لها؟
قال: هي الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض
فسأل القس: لماذا ختم الله بهذه الآية: {وما مسّنا من لغوب}.
قال: لأن اليهود قالوا: إن الله لمّا خلق السموات والأرض في ستة أيام تعب فاستراح يوم السبت وهو اليوم السابع فرد عليهم بالآية السابقة.
- وما الثمانية التي لا تاسع لها؟
فقال له حملة العرش.
- وما المعجزات التسع؟
فقال له: معجزات موسى وهي: اليد والعصا والطمس والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون.
- وما العشرة التي تقبل الزيادة؟
فقال: قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها}.
- وما الأحد عشر؟
فقال إخوة يوسف عليه السلام.
- وما المعجزة المكونة من إثنا عشر أمراً؟
فقال: {وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا إضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنتا عشرة عيناً}.
- وما الثلاثة عشر؟
قال: إخوة يوسف وأمه وأبيه.
- ما هو الشيء الذي تنفس ولا روح فيه؟
قال له: {والصبح إذا تنفس} أي أضاء.
- ومن هو الذي سار به قبره؟
قال: يونس عليه السلام.
- من هم الذين صدقوا ودخلوا النار؟
قال: إقرأ قوله تعالي: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب}.
- ما الشيء الذي خلقه الله وأنكره؟
قال: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}.
- ومن هم الذين كذبوا ودخلوا الجنة؟
قال: إخوة يوسف عليه السلام عندما قالوا أكله الذئب.
- ما هي الأشياء التي خلقها الله وليس لها أب أو أم؟
قال: الملائكة.
- ما هي الشجرة المكونة من 12 غصناً في كل غصن 30 ورقة وفي كل ورقة 5 ثمرات، ثلاث منها في الظل، واثنتان في الشمس؟
قال: هي السنة فيها 12 شهر، في الشهر 30 يوماً، في اليوم 5 صلوات، ثلاث في الليل واثنتان في النهار.
قال أبو يزيد للقس: إني سائلك سؤال واحد فقط، فأجبني عليه.
قال: ما هو؟
- ما هو مفتاح الجنة؟
فوجم القس وظل جامداً.
فقال له أصحابه سألته كل هذه الأسئلة وأجابك عليها ويسألك سؤالاً واحداً ولم تجبه؟
فقال: إني يا أبنائي خائف منكم.
فقالوا أجبه ولا تخـف.
قال: مفتاح الجنة: {لا إله إلا الله محمد رسول الله}.
شطحات
اشتهر البسطامي بالشطحات التي يقشعرّ منها البدن. فها هو الذهبي ينسب إليه في {ميزان الاعتدال} إنه كان يقول: {سبحاني وما في الجنة إلا الله، ما النار لأستندن إليها غدا وأقول: اجعلني لأهلها فداء أو لأبلغنهم أن ما الجنة إلا لعبة صبيان، هب لي هؤلاء اليهود، ما هؤلاء حتى تعذبهم}.
وينسب الشعراني إلي أبي يزيد البسطامي شطحات عدة، منها قوله: {كان لا يخطر بقلبي شيءٌ إلا أخبرني به}. وقوله: {أدخلني الحيُّ في الفلَك الأسفل فدوَّرني في الملكوت الأسفل، فأرانيه، ثم أدخلني في الفلك العلوي وطوى بي السموات! فأراني ما فيها إلي العرش، ثم أوقفني بين يديه، فقال: سلني أيَّ شيء رأيته حتى أهبه لك! فقلت: ما رأيتُ شيئاً حسناً فأسألك إياه! فقال: أنت عبدي حقّاً تعبدني لأجلي صدقاً}.
وقد جمع قاسم محمد عباس عدداً كبيراً من شطحاته في كتاب له، ومنها: {أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى، وأنا ما أردت أن أرى الله، هو أراد أن يراني}، و{أسألك ألا تحجب الخلق بك عنك، وتحجبهم عنك بي، إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون}، و{أشرف الحق علي أسرار العالم فشاهدها خالية منه غير سري فإنه رأى منه ملاءً فخاطبني معظِّماً لي بأن قال: كل العالم عبيدي غيرك}. و{إن كنت تحب أنانتك لي، فإني قد وهبت أنانتي لك، فافعل ما تريد} و{أنا لا أنا أنا أنا؛ لأني أنا هو، وأنا هو هو} و{بطشي أشد من بطشه بي} و{سبحاني ما عظم شأني، حسبي من نفسي حسبي} و{طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك} و{لئن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة}.
ومن هذه الشطحات ما ذكره ابن الجوزي في كتابه {تلبيس إبليس} فقال: {كان رجل من أهل بسطام لا ينقطع عن مجلس أبي يزيد لا يفارقه فقال له ذات يوم: يا أستاذ أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر وأقوم الليل وقد تركت الشهوات ولست أجد في قلبي من هذا الذي نذكره شيئاً البتة فقال له أبو يزيد: لو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ثلاثمائة سنة وأنت على ما أراك لا تجد من هذا العلم ذرة، قال: ولم يا أستاذ، قال: لأنك محجوب بنفسك فقال له: أفلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب، قال: نعم ولكنك لم تقبل، قال: بلى أقبل وأعمل ما تقول، قال أبو يزيد: اذهب الساعة إلى الحجام واحلق رأسك ولحيتك وانزع عنك هذا اللباس وابرز بعباءة وعلق في عنقك مخلاة واملأها جوزاً واجمع حولك صبياناً وقل بأعلى صوتك يا صبيان من يصفعني صفعة أعطيته جوزة وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه فقال: يا أبا يزيد سبحان الله تقول لي مثل هذا ويحسن أن أفعل هذا فقال أبو يزيد: قولك سبحان الله شرك قال: وكيف قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها فقال: يا أبا يزيد هذا ليس أقدر عليه ولا أفعله ولكن دلني علي غيره حتى أفعله فقال أبو يزيد: ابتدر هذا قبل كل شيء حتى تسقط جاهك وتذل نفسك ثم بعد ذلك أعرفك ما يصلح لك قال: لا أطيق هذا قال إنك لا تقبل}.
وقد اعتقد الصوفية في البسطامي ما هو خارق للعادة، وما ليس إلا للخالق العظيم، وما لا يصدر إلا عن شاطح أو مريض نفسي. فقال بعضهم إن البسطامي قتل نملة خطأ فنفخ فيها فأحياها خوفاً من المطالبة. وينقلون أنه كان يكلم الله تعالى: أوقفني الحق بين يديه وقال: يا أبا يزيد بأي شيء جئتني؟ قلت: بالزهد بالدنيا قال: إنما مقدار الدنيا عندي جناح بعوضة ففيم زهدت؟ قلت: إلهي أستغفرك جئتك بالتوكل عليك. قال: ألم أكن ثقة في ما ضمنت لك. قلت: أستغفرك جئتك بك أو قال: بالافتقار إليك. فقال: عند ذلك قبلناك.
ونظراً الى هذه الشطحات المنسوبة للبسطامي فإن كثيراً من العلماء خطأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب.
ويعدّ البسطامي من مؤسسي مدرسة الشطح في الإسلام، فقد أخذ الكثير عن الرؤى الفارسية والهندية واليونانية، وبثّها في فضاء الثقافة الإسلامية، بلغة تقترب من الشعر. ومن ثم اعتبره مؤرخو التصوف ودارسوه أنه هو ذلك الثيوصوفي الهلليني الذي هيأ الأرضية المناسبة لظهور الحلاج.
دفاع عنه
موقف العلماء من هذه الشطحات المنسوبة إلي أبي يزيد البسطامي مختلف؛ فمنهم من يصححها ويجعلها دلالة على الولاية ومنهم من قال إن هذه العبارات خرجت من البسطامي، وهو فاقد العقل بسبب السكر والمشاهدة.
وقد أحسن الذهبي الظن بالبسطامي، وكان لا يتصور أن يصدر مثل هذا الكلام من فاسق فضّل أن يكون زاهداً يطلب الآخرة، واتّهم البعض بأنه نقل عن البسطامي أموراً من متشابه القول، مشكوك في صحتها عنه، حيث لا تصح عن مسلم، وأن هذا الشطح إن صح عنه فقد يكون قاله في حالة سكره.
وكان أبو حامد الغزالي لا يصحح هذه الشطحات، ويرى أنها فهمت خطأ، ولذا يقول في {إحياء علوم الدين}: وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}، فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.
وقد سعى الحافظ أبو نعيم في {حلية الأولياء} إلى تصحيح كلام البسطامي، وقال: إشاراته هائنة وعباراته كامنة لعارفيها ضامنة ولمنكريها فاتنة. أما العماد بن كثير فقال في {البداية والنهاية}: وقد حكي عنه شطحات ناقصات، وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة، وقد قال بعضهم: إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة.
وثمة من يقول إن ما ورد بشأن البسطامي في كتاب {لطائف المنن} المنسوب لابن عطاء الإسكندري، هو كلام مدسوس عليه. فالبسطامي لا يمكن أن يقول: {خضت بحراً وقفت الأنبياء بساحله} فهذا كلام ظاهر البطلان فيه رفع لمقام أبي يزيد فوق مقام الأنبياء. كذلك لا يمكنه أن يشطح ويقول: {سبحاني ما أعظم شأني} أو يقول: {أنا الحق} أو {الجنة ملعبة الصبيان}. فالمعروف عنه أنه كان من المتمسكين بآداب السنة النبوية، حالاً وقولاً وفعلاً.
وثمة واقعة تبرهن ذلك، فقد كان في زمن البسطامي رجل مشهور بالورع والزهد فقال يوماً أبو يزيد البسطامي لأصحابه: قوموا بنا ننظر إلى الرجل الذي شهر نفسه بالولاية فذهبوا معه، فلما خرج الرجل من منزله ودخل مسجده تفل نحو القبلة فقال أبو يزيد: قوموا بنا ننصرف من غير أن نسلم فإن هذا الرجل ليس بمأمون على أدب من آداب الشريعة التي أدب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه من مقامات الأولياء الصديقين.
كان أبو يزيد يزجر نفسه فيصيح عليها ويقول: يا مأوى كل سوء، المرأة إذا حاضت طهرت في ثلاثة أيام وأكثره لعشرة، وأنت يا نفس قاعدة منذ عشرين وثلاثين سنة بعد ما طهرت، فمتى تطهرين؟ إن وقوفك بين يدي الله عز وجل طاهر فينبغي أن تكوني طاهرة.
ونقل الذهبي في كتاب {تاريخ الإسلام} بعض أقواله في هذا المقام، ومنها: {ما وجدت شيئاً أشد علي من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت حائراً}. ومنها: {لله خلق كثير يمشون على الماء، وليس لهم عند الله قيمة، و{لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة}.
وثمة من يرد على ما هو منسوب إلى البسطامي من شطحات، بإظهار جوانب الزهد والورع في حياة الرجل. فقد كان يقول: غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره، وأعرفه، وأحبه، وأطلبه. فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، وطلبه لي أولاً حتى طلبته.
وقال أبو يزيد عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد عليًّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد.
وقال أبو يزيد: لا يعرف نفسه من صحبته شهوته.
وقد سئل البسطامي ما علامة العارف؟ قال: أن لا يفتر من ذكره، ولا يمل من حقه، ولا يستأنس بغيره.
وقال: إن الله أمر العباد ونهاهم فأطاعوا فخلع من خلعه فاشتغلوا بالخلع عنه، وإني لا أريد من الله إلا الله.
ويروي العباس بن حمزة قائلاً: صليت خلف أبي يزيد البسطامي الظهر، فلما أراد أن يرفع يديه ليكبر لم يقدر إجلالاً لاسم الله، وارتعدت فرائصه حتى كنت أسمع تقعقع عظامه، فهالني ذلك.
وكان البسطامي يتوجه إلى الله ويناجيه: ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير، بل إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير.
وقال: لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت أن أذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالاً لله أن أذكر.
وقد بلغ به التواضع وإنكار الذات إلى أن يقول: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر. وهنا يقول أيضاً: أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة، أولهم: الزاهد بزهده، والثاني: العابد بعبادته، والثالث: العالم بعلمه. ثم قال: مسكين الزاهد، لو علم أن الله عز وجل سمى الدنيا كلها قليلاً فكم ملك من الدنيا؟ وفي كم زهد مما ملك؟ وأما العابد فلو رأى منة الله عليه في العبادة عرف عبادته في المنة، وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله عز وجل من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ فكم علم هذا العالم من ذلك السطر؟ وكم عمل مما علم؟
وسأله رجل: من أصحب ؟ فقال: من لا تحتاج أن تكتمه شيئاً مما علمه الله منك. وكان يقول أيضاً: {أبعد الخلق من الله أكثرهم إشارة إليه}.
ويروى عنه أنه قال: طلقت الدنيا ثلاثاً بتاتاً لا رجعة لي فيها، وصرت إلى ربي وحدي فناديته بالاستغاثة: إلهي أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك. فلما عرف صدق الدعاء من قلبي، واليأس من نفسي، كان أول ما ورد عليَّ من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكلية ونصب الخلائق بين يدي مع إعراضي عنهم. وكان يقول أيضاً: {لا يعرف نفسه من صحبته شهوته}.
وكان يقول: الناس كلهم يهربون من الحساب ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله تعالى أن يحاسبني فقيل له: لم؟ قال: لعله أن يقول لي فيما بين ذلك: يا عبدي، فأقول: لبيك. فقوله لي: عبدي أعجب إلى من الدنيا وما فيها. ثم بعد ذلك يفعل بي ما يشاء .
ويروي أبو موسى الديبلي، عن أبي يزيد قائلاً: نظرت فإذا الناس في الدنيا متلذذون بالنكاح والطعام والشراب، وفي الآخرة بالمنكوح والملذوذ، فجعلت لذتي في الدنيا ذكر الله عز وجل وفي الآخرة النظر إلى الله. وقد سأله الديبلي: من أصحب؟ قال: من إذا مرضت عادك، وإذا أذنبت تاب عليك ومن يعلم منك ما يعلمه الله منك.
وثمة قصة تبيّن بره بوالدته، يرويها هو قائلاً: طلبت أمي ماء فجئتها فوجدتها نائمة فقمت أنظر يقظتها فلما استيقظت قالت أين الماء فأعطيتها الكوز وقد كان سال الماء على إصبعي فجمد عليها الماء من شدة البرد فلما أخذت الكوز انسلخ جلد إصبعي فسال الدم فقالت ما هذا فأخبرتها قالت اللهم إني راضية عنه فارضَ عنه.
وخرج البسطامي إلى الجامع يوم الجمعة في الشتاء فزلقت رجله فمسك بجدار بيت فذهب إلى صاحبه فإذا هو مجوسي فقال له: قد استمسكت بجدارك فاجعلني في حل قال أو في دينكم هذا الاحتياط قلت نعم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال أبو تراب: {سألته عن الفقير، هل له وصف} فقال: {نعم! لا يملك شيئاً، ولا يملكه شيء}.
وقد مات سنة إحدى وستين، وقيل: سنة أربع وستين ومائتين، عن ثلاث وسبعين سنة، ويقال إنه دفن في بسطام، لكن بات له أربعون مقاماً في بلاد شتى.